مركز الإعلام

جائحة كورونا والنظام الصحي

لا تلقي الأوبئة الدروس ولكن علينا استخلاصها حتى لا تتكرر الأخطاء، ولا تقدم جائحة كورونا دروسها إلى البلدان إلّا إذا استطاعت تلك البلدان أن تستوعب الدروس وتعيد بناء أنظمتها الصحية تحسبًا لأيّ موجة وباء ثانية قادمة محتملة وليست بالضرورة حتمية، وقد تكون العقود القادمة عقود عودة الأوبئة.

علينا أن نقر بأن الذاكرة البشرية ضعيفة وقصيرة الأمد، فقبل مائة عام واجهت البشرية وباءً عالميًا تمثّل في جائحة الانفلونزا الإسبانية عام 1918 والتي حصدت أرواح ما يقارب الخمسين مليون وأطاحت بكثير من الأنظمة الصحية آنذاك، أما نحن اليوم فنحن نقف بمواجهة وباء يضع الأنظمة الصحية أمام اختبارٍ لقدرتها ليس فقط قدرتها على احتوائه بل تأهبها للمستقبل، فعلينا وبكل مصداقية وشفافية أن نتبيّن العيوب التي كشفتها جائحة كورونا لنا، وهذا لن يتأتى إلّا بعد دراسة متأنية للنظام الصحي قبل الجائحة وإجراء معاينة ومراجعة سريعة ودقيقة لإدارة الأزمة والوقوف على عناصر التخطيط لما قبل الأزمة، فالأنظمة الصحية تتأطر بأربعة مبادئ رئيسة هي الميزانيات، البنى التحتية، التشريعات الناظمة، والحيّز الذي تحتله الصحة في الخطاب السياسي العام.

بالرغم من الإجراءات المتخذة من الحكومات كمحاولة لإبطاء تفشي فيروس كورونا المستحدث والسيطرة عليه، لكن هذا لم يمنع تهاوي الأنظمة الصحية في بعض البلدان مثل أمريكا وبعض دول أوروبا، حيث أظهرت جائحة كورونا مشاكل الأنظمة الصحية في البلدان المتقدمة وغير المتقدمة من حيث النقص الحاد في عدد الأطباء والممرضين وضعف البنى التحتية للمؤسسات الصحية وتدني مستويات الاستعداد والجاهزية، وهنا يتبادر إلى الأذهان السؤال عن القناعة المترسخة بفوقية المؤسسات الصحية في البلدان المتقدمة وإمكاناتها الحقيقية ودونية المؤسسات الصحية في بلدان العالم الثالث.

 المشكلة التي رافقت النقص في أعداد الأطباء والممرضين وغيرهم من الكوادر الصحية، هي النقص الحاد بمعدّات السلامة الشخصية (البذلات الواقية، الكمامات، القفازات وباقي مستلزمات الوقاية) وهذا النقص زاد المشكلة تعقيدًا بالإضافة إلى النقص في أعداد أسرّة العناية المركزة والحثيثة والأجهزة الخاصة بها.  

إن عدم معرفة المخزون الاستراتيجي للمستلزمات الوقائية وعدم الوقوف على جاهزية الكوادر البشرية من حيث التدريب على آليات ضبط العدوى وسلامة الكوادر الطبية الشخصية وجاهزية كوادر الرصد والتحري الوبائي يلعب دورًا هامًا وحاسمًا في صمود النظام الصحي أمام الجائحة، مما يستدعي ضرورة قيام الدولة ب " استثمار ضخم" في الموارد لتدريب الكوادر الصحية على مراقبة الحالات الجديدة المحتملة والرصد والتحري وضبط العدوى وغيرها من المجالات.

من ناحية أخرى، فإن الدول التي سارعت بإعلان الحرب ضد الفيروس، ليست مهيئة عملياً لصدّ عدوانه أو صد ما يعرف بالهجمات المرتدة للوباء، ذلك أن عليها اللجوء والاعتماد على بنيتها التحتية الصحية، من مستشفيات وعيادات وأطباء وممرضين وأدوية ومختبرات طبية... إلخ، لكنها وللمفارقة، هي الدول ذاتها التي سعت خلال العقود الماضية إلى حرمان تلك البنية من الأموال اللازمة لتقويتها وتطويرها وتجويد وتحسين نوعية الخدمات الصحية فيها.

ما نتج وما سينتج من تأثير لفيروس كوفيد-19 على الأنظمة الصحية من تأثيرات على فعالية هذه الانظمة أكثر من كفاءتها من حيث الإنجاز الصحيح للأهداف؛ والمتمثل في تقديم الرعاية الصحية للمحتاجين لها، وذلك بسبب تأثيره بالدرجة الأولى على فعالية الأنظمة الصحية، فتأثيرات كورونا المستجد تتطلّب منّا أن نتوقف قليلاً لمراجعة فلسفة عمل الأنظمة الصحية وطريقة تكوينها من حيث الفعالية والكفاءة، وذلك من منطلق أن «السلامة الصحية» هي أصل الخدمة وحق مشروع لكل مواطن، وبناءً عليه فإنه لابدّ من مراجعة طبيعة العلاقة بين كفاءة وفعالية النظام الصحي، في كونها علاقة سببية أم علاقة ارتباط، وفي قدرتها التشغيلية كذلك الأمر.

الدكتور محمد رسول الطراونة

الأمين العام للمجلس الصحي العالي السابق
رئيس جمعية اختصاصيّ طب الأسرة الأردنية

print Return